من خصائص الإسلام أنه منهجٌ متكاملٌ، يحرص على مكارم الأخلاق وغرسها في نفوس أفراد المجتمع؛ لينشأوا ويشبُّوا ويهرموا على الاتِّصاف بها، ولا يتمُّ ذلك إلا بتقويم النفس الإنسانية على الخلق الفطري الذي فُطرَتْ عليه، وتهيئة البيئة الصالحة التي يتربَّى فيها الإنسان، وإيجاد الصفات الحسنة، وإقامة ميزان العدل في المجتمع بإثابة المحسن ومعاقبة المسيء، فالإسلام منهج تربوي يُهذِّبُ النفس، ويصل بها إلى طريق النجاة، وحتى نفهم ذلك بوضوح فسوف نركِّزُ في مقالنا هذا – وعنوانه: (منهج الإسلام في التربية) – على العناصر التالية:

أولاً منهج يحفظ كرامة الإنسان في المجتمع
لقد كان التوجيه الأمثلُ والغالب في توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في شتى المواقف المخالفة – ألا يَذْكُرَ صاحب الموقف باسمه، ولا يشير بأي إشارة يُعلَمُ من خلالها أن “فلانًا” هو الذي يقصده رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه، بل كان دائمًا يشير بمقولته الحكيمة: ((ما بال أقوام))، وقوله: ((ما بالُ أحدكم يفعل كذا وكذا))، فإننا نرى النبي صلى الله عليه وسلم لم يُواجِهِ الفاعلَ بفعله حتى لا يحرجه، وحين لا يحرجه أو يخجله يكون حريصًا على كرامته في المجتمع، ويكفي أن يعلمَ الشخص أنه قصَّر ولا يعلمُ غيرُه ذلك، ولو كان ما أحدَثه هذا الشخص جريمةً في حق الإسلام؛ ذكر الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي حُمَيْدٍ الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأسد يُقالُ له: “ابن اللُّتْبِيَّةِ” – قال عمرو وابن أبي عمر: على الصدقة – فلما قدم قال: هذا لكم وهذا لي؛ أُهدِيَ لي، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((ما بالُ عامل أبعثُه فيقولُ: هذا لكم، وهذا أُهدِي لي؟! أفلا قعَد في بيت أبيه أو في بيت أمِّه حتى يَنظُرَ أُيهدَى إليه أم لا؟! والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحدٌ منكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يَحمِلُه على عنقه بعيرٌ له رُغاءٌ، أو بقرة لها خُوارٌ، أو شاةٌ تَيْعِرُ))، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتَيْ إبطَيْه، ثم قال: ((اللهم هل بلغتُ؟)) مرتين؛ رواه مسلم، باب تحريم هدايا العمال.
 فذلكم هو الأسلوب الأمثل في التوجيه الكريم الذي علمنا من خلاله صلى الله عليه وسلم كيف تكون الكلمة الطيبة، وما هو سحرُها، إنه المدخل الحقيقي لقلب وفطرة الإنسان السوي.

ثانياً منهج يُعطي للعقل دورًا في التوجيه
لقد أعطانا النبي صلى الله عليه وسلم دروسًا تربوية عظيمة في توجيه النصح، وعدم التسرع في معالجة الأمور – ولو كان ما حدث ذنبًا عظيمًا – فالتسرع في الحكم والعقاب ربما ترتَّب عليه منكرٌ أشدُّ من المنكر الذي وقع، يتضح ذلك من خلال موقفه صلى الله عليه وسلم مع صحابته، حين دخل أعرابي إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال فيه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبولُ في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ! قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُزرموه دعوه))، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذِكْر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن)) – أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: فأمر رجلاً من القوم، فجاء بدلْوٍ من ماء فشنَّه عليه”؛ رواه مسلم، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات.
فالمسألةُ رغم عِظَمِها في التعدِّي على حرمة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن التوجيه النبوي بلغ الغاية العظمى في حفظ سلامة الإنسان من أن يتأذَّى ولو في قضاء حاجته، وذلك واضح في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزرموه))؛ أي: لا تقطعوا عليه بوله؛ لأن في ذلك شدةً عليه وحرجًا عظيمًا، ثم بعد أن يقضي حاجته يتوجَّهُ إليه المربي العظيم بأسلوب العتاب المُهذَّب بعيدًا عن العنف والأذى، فيقول له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذِكْر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن))، ثم بيَّن صلَّى الله عليه وسلم العلاجَ لهذا الأمر أنه يكفي أن تَنضَحَ دلوًا من ماء على هذا البول، وبعدها يطهر المكان.


ختامًا..
فإن منهج الإسلام في التربية يُظهر سماحة الإسلام في مناهجه التربوية، بدا ذلك واضحًا من خلال نظرة الإسلام إلى الإنسان وكرامته – دون نظرٍ إلى عقيدته أو ديانته – وتلك سياسة الإسلام الحكيمة في كل نواحي الحياة، حتى في الحروب حين يخرج المسلمون لإعلاء كلمة الله يكون المنهج قائمًا على عدم التعدي على المدنيين الذين لا يشتركون فيها؛ من شيوخ، ونساء، وعَجَزة، وعُبَّادٍ منقطعين للعبادة، وعلماء منقطعين للعلم، إلا إذا قاتلوا، أو كان لهم في تدبير الحرب رأي ومكيدة.
لقد مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن انتصر المسلمون في غزوة حنين بامرأة مقتولة، والناس مزدحمون عليها، فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: امرأة قتلها خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من معه: ((أَدرِكْ خالدًا، وقل له: إن رسول صلى الله عليه وسلم ينهاك أن تقتلَ وليدًا، أو امرأةً، أو عسيفًا))؛ راجع السيرة النبوية لابن هشام المجلد الثاني – ص: 251، والحديث رواه ابن حبَّان، وقال الألباني: حسن صحيح.
وأمر المسلمين ألا يقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة، وقال لهم: ((اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، وقاتلوا مَن كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا))؛ رواه أبو داوود، باب في دعاء المشركين، قال الشيخ الألباني: صحيح.
فالإسلام إنما يريد من الحرب إحقاقَ الحقِّ، ونشرَ العدل، والسموَّ بالمجتمع في عقيدته وأعماله وأخلاقه، فليس الغرضُ من الحرب والنصر السيطرةَ والاستعمارَ والاستئثارَ بخيرات البلاد المفتوحة، وتسخير أهلِها ومزاحمتهم في أرزاقهم، بل الغرضُ إقامةُ عالَمٍ مثاليٍّ سعيد.
ربنا لا تُزِغْ قلوبَنا بعد إذ هديتنا، وهبْ لنا مِن لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.